فصل: فصـــل في طبقات أولياء الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـــل

وأولياء الله على ‏[‏طبقتين‏]‏ سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون‏.‏ ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، والمطففين وفي سورة فاطر، فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها، فقال في أولها‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏ الواقعة‏:‏ 1ــ 14‏]‏ ‏.‏

فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله ـ سبحانه ـ ذلك في كتابه في غير موضع ‏.‏

ثم قال تعالى في آخر السورة‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا‏}‏ أي‏:‏ فهلا ‏{‏وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏ الواقعة‏:‏ 83 ــ 96‏]‏ ‏.‏

وقال تعالى في سورة الإنسان‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا‏}‏ الأيات ‏[‏الإنسان‏:‏ 3 ــ 12‏]‏‏.‏

وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال‏:‏ ‏{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ أياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏ المطففين‏:‏ 7 ــ 28‏]‏

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره من السلف قالوا‏:‏ يمزج/ لأصحاب اليمين مزجًا، ويشرب بها المقربون صرفًا، وهو كما قالوا‏.‏ فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ ولم يقل‏:‏ يشرب منها؛ لأنه ضمن ذلك قوله يشرب، يعنى‏:‏ يروى بها، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل‏:‏ يشربون منها لم يدل على الرى، فإذا قيل‏:‏ يشربون بها كان المعنى يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها؛ فلهذا يشربون منها صرفًا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجًا، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان‏:‏ ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكين، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه‏)‏ رواه مسلم في صحيحه، وقال/ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الراحمون يرحمهم الرحمن‏.‏ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث صحيح ‏.‏

وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ومن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله‏)‏ ومثل هذا كثير ‏.‏

وأولياء الله تعالى على نوعين‏:‏ مقربون وأصحاب يمين كما تقدم‏.‏ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لى وليًا فقد بارزنى بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏)‏‏.‏

فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات ‏.‏

وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا / الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًا تامًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‏)‏ يعنى الحب المطلق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏ الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏ أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات، يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفًا كما علموا له صرفًا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفًا، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا ‏.‏

ونظير هذا انقسام الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إلى عبد رسول، ونبي ملك، وقد خير الله سبحانه محمدًا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدًا رسولا، وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولا، فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏ ص‏:‏ 35 ـ 39 ‏]‏ أي اعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه، ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه ‏.‏

وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدًا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل روى عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت‏)‏، ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولى الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف، ويذكر هذا روأية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة، كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل‏:‏ على ثلاثة، كقول أبي حنيفة ـ رحمه الله ‏.‏

/ والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين‏.‏ فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك‏.‏

 فصـــل

وقد ذكر الله تعالى ‏[‏أولياءه‏]‏ المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏32 ـ 35 ‏]‏، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الأية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏‏.‏

وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصًا بحفاظ القرآن، بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق؛ بخلاف الأيات التي في الواقعة والمطففين والانفطار، فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فـ ‏[‏الظالم لنفسه‏]‏ أصحاب الذنوب المصرون عليها، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين، و‏[‏المقتصد‏]‏ المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدى للفرائض والنوافل، كما في تلك الأيات، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج من بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء َالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 133 ـ 136 ‏]‏ و‏[‏المقتصد‏]‏ المؤدى للفرائض المجتنب للمحارم، و‏[‏السابق بالخيرات‏]‏ هو المؤدى للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏ 33 ‏]‏ مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد ‏.‏

وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره‏.‏ فمن قال‏:‏ إن أهل الكبائر مخلدون في النار وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار‏.‏ ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع سلف الأمة وأئمتها ‏.‏

وقد دل على فساد قول ‏[‏الطائفتين‏]‏ قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏48 ‏]‏، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من / المعتزلة؛ لأن الشرك يغفره الله لمن تاب وما دون الشرك يغفره الله أيضًا للتائب فلا تعلق بالمشيئة، ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏ الزمر‏:‏ 53 ‏]‏‏.‏

فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففي أية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الأية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة ومن الشرك التعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورًا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والوقف العام ‏.‏

/ فصـــل

وإذا كان ‏[‏أولياء الله عز وجل‏]‏ هم المؤمنون المتقون‏.‏ والناس يتفاضلون في الأيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك‏.‏ كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك ‏.‏

وأصل الأيمان والتقوى‏:‏ الأيمان برسل الله، وجماع ذلك‏:‏ الأيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالأيمان به يتضمن الأيمان بجميع كتاب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل، وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة؛ فإن الله تعالى‏:‏ أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة، قال الله تعالى ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأيوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 163 ـ 165 ‏]‏، وقال تعالى عن أهل النار‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9 ‏]‏ فأخبر أنه كلما ألقى في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير‏.‏ وقال تعالى في خطابه لإبليس‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ ص‏:‏ 85 ‏]‏ فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه؛ فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم‏.‏ فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له فإنه ممن لا يتبع الشيطان ولم يكن مذنبًا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل ‏.‏

 فصـــل

ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانًا مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به؛ ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانًا مجملًا، فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع /إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب أيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به أيمانًا مفصلا وعمل به فهو أكمل أيمانًا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به؛ وكلاهما ولي لله تعالى‏.‏

والجنة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب أيمانهم وتقواهم، قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلًا نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18 ــ 21 ‏]‏ ‏.‏

فبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه وإن عطاءه ما كان محظورًا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏‏.‏ فبين الله ـ سبحانه ـ أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا وقد بين/ تفاضل أنبيائه ـ عليهم السلام ـ كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأيدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 253 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55 ‏]‏ ‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أنى فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏ وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏ الحديد‏:‏ 10 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 95، 96 ‏]‏، / وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19 ـ 22 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏ الزمر‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11 ‏]‏ ‏.‏

 فصـــل

وإذا كان العبد لا يكون وليًا لله إلا إذا كان مؤمنًا تقيًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏ يونس‏:‏62، 63 ‏]‏ وفي صحيح البخارى الحديث المشهور ـ وقد تقدم ـ يقول الله تبارك وتعالى فيه‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه‏)‏ ولا يكون مؤمنًا تقيًا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار/ أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدًا من الكفار والمنافقين لا يكون وليًا لله‏.‏

وكذلك من لا يصح أيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة ـ وإن قيل‏:‏ إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولًا ـ فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين؛ فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا يترك السيئات لم يكن من أولياء الله‏.‏ وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة‏:‏ عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ‏)‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه أهل السـنن من حديث علي وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول‏.‏ لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء‏.‏ وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء‏.‏ ولا يصح منه أيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة‏.‏ فلا يصلح أن يكون بزازًا ولا عطارًا ولا حدادًا ولا نجارًا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء‏.‏ فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل/ أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب‏.‏ بخلاف الصبى المميز فإن له أقوالًا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع‏.‏ وفي مواضع فيها نزاع ‏.‏

وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليًا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين ـ من المشركين وأهل الكتاب ـ لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليًا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ‏؟‏‏!‏ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة‏.‏ أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أو يقول‏:‏ إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعى الولأية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان.‏ فضلا عن ولاية الله عز وجل‏.‏ فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولأيتهم كان أضل من اليهود والنصارى ‏.‏

/وكذلك المجنون؛ فإن كونه مجنونًا يناقض أن يصح منه الأيمان والعبادات التي هى شرط في ولاية الله، ومن كان يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا‏.‏

إذا كان في حال إفاقته مؤمنًا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن لم يكن جنونه مانعًا من أن يثيبه الله على أيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك‏.‏ وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من أيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه ‏.‏

فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدى الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد يأتى بما يناقض ذلك‏.‏ لم يكن لأحد أن يقول‏:‏ هذا ولى لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونًا، بل كان متولهًا من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإن كان مجنونًا باطنًا وظاهرًا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبًا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقًا لما يستحقه أهل الأيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولى لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنًا بالله متقيًا كان له من ولاية الله بحسب ذلك‏.‏ / وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرًا أو منافقًا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق ‏.‏

 فصـــل

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحًا، كما قيل‏:‏ كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويجدون في التجار والصناع والزراع‏.‏

وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرضي وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏ المزمل ‏:‏20 ‏]‏‏.‏

/وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم ‏[‏القراء‏]‏ فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم ‏[‏الصوفية والفقراء‏]‏‏.‏ واسم ‏[‏الصوفية‏]‏ هو نسبة إلى لباس الصوف؛ هذا هو الصحيح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء‏.‏ وقيل‏:‏ إلى صوفة بن أدّ بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أهل الصفة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الصفا‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الصفوة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الصف المقدم بين يدى الله تعالى‏.‏ وهذه أقوال ضعيفة؛ فإنه لوكان كذلك لقيل‏:‏ صَفي أو صفائى أو صَفَوى أو صُفي، ولم يقل‏:‏ صوفي‏.‏

وصار ـ أيضًا ـ اسم ‏[‏الفقراء‏]‏ يعنى به‏:‏ أهل السلوك‏.‏ وهذا عرف حادث‏.‏ وقد تنازع الناس‏:‏ أيما أفضل‏:‏ مسمى ‏[‏الصوفي‏]‏ أو مسمى ‏[‏الفقير‏]‏ ‏؟‏ ويتنازعون ـ أيضًا ـ‏:‏ أيما أفضل‏:‏ الغنى الشاكر أو الفقير الصابر ‏؟‏

وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين أبي العباس بن عطاء‏.‏ وقد روى عن أحمد بن حنبل فيها روأيتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله ـ تبارك وتعالى ـ حيث قال‏:‏ ‏{‏يَا أيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وفي الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه سئل‏:‏ أي الناس أفضل ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أتقاهم‏)‏‏.‏ قيل له‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يوسف نبى الله ابن يعقوب نبى الله ابن إسحاق نبى الله ابن إبراهيم خليل الله‏)‏‏.‏ فقيل له‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏عن معادن العرب تسألوني‏؟‏ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة‏.‏ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا‏)‏‏.‏

فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم ‏.‏

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى‏.‏ كلكم لآدم وآدم من تراب‏)‏‏.‏

وعنه ـ أيضًا ـ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان‏:‏ مؤمن تقي، وفاجر شقي‏)‏‏.‏

فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله، وإذا استويا في التقى استويا في الدرجة

ولفظ ‏[‏الفقر‏]‏ في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏60 ‏]‏، / وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أيهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏ فاطر‏:‏15 ‏]‏‏.‏ وقد مدح الله ـ تعالى ـ في القرآن صنفين من الفقراء‏:‏ أهل الصدقات، وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273 ‏]‏، وقال في الصنف الثاني ـ وهم أفضل الصنفين ـ‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏ الحشر‏:‏ 8 ‏]‏‏.‏

وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنًا وظاهرًا‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله‏)‏‏.‏

أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك‏:‏ ‏(‏رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر‏)‏ فلا أصل له،ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏95، 96‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏19 ـ 22 ‏]‏ ‏.‏

وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل‏:‏ ما أبالى ألا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر‏:‏ ما أبالى أن أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال على بن أبي طالب‏:‏ الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما، فقال عمر‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته، فسأله فأنزل الله تعالى هذه الأية‏.‏

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة على وقتها‏)‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد في سبيل الله‏)‏ قال‏:‏ حدثنى بهن رسول الله /صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني‏)‏، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل‏:‏ أي الأعمال أفضل ‏؟‏ قال ‏(‏أيمان بالله وجهاد في سبيله‏)‏، قيل‏:‏ ثم ماذا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حج مبرور‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين أن رجلًا قال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله، أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال‏:‏ ‏(‏لا تستطيعه أو لا تطيقه‏)‏ قال‏:‏ فأخبرني به قال‏:‏ ‏(‏هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ‏؟‏‏)‏‏.‏

وفي السنن عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، إنى لأحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة‏:‏ اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏)‏، وقال له ـ وهو رديفه‏:‏ ‏(‏يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا‏.‏ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حقهم عليهم ألا يعذبهم‏)‏‏.‏

وقال ـ أيضًا ـ لمعاذ‏:‏ ‏(‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة/ سنامه الجهاد في سبيل الله‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، ألا أخبرك بأبواب البر ‏؟‏ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل‏)‏ ثم قرأ ‏{‏تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏16، 17‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله ‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ بلى ‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏أمسك عليك لسانك هذا‏)‏ فأخذ بلسانه، قال‏:‏ يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا معاذ ‏!‏ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم‏)‏‏.‏

وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت‏)‏ فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهى عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضًا، كما ثبت في صحيح البخارى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلًا قائمًا في الشمس فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا ‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه‏)‏‏.‏

/وثبت في الصحيحين عن أنس‏:‏ أن رجالًا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تَقَالُّوها فقالوا‏:‏ وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ ‏!‏ ثم قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم ولا أفطر‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم ولا أنام‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم‏.‏

وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا ‏؟‏‏!‏ ولكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏ أي‏:‏ سلك غيرها؛ ظانًا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو برىء من الله ورسوله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130 ‏]‏‏.‏ بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة‏.‏